اقتصاد منهار، ومرافق حكومية تثير الرثاء، وأمن متردٍ، وقتل في الشوارع على الهوية وملاحقات واعتقالات وتلفيق قضايا، وقضاء ينخره الفساد، وإعلام مسطول، وجيش يخسر سيناء، وداعش تتمدد.
شيئان فقط يرتفعان في مصر بينما يتهاوى كل شيء آخر: رواتب العسكر والجنود، وعدد القتلى والمعتقلين.
مصر على شفا انهيار. السلطات الثلاث فقدت مصداقيتها شعبيًا، والسلطة الرابعة تهز وسطها.
السيسي فشل، لم يبق سوى قلَّة قليلة من المقربين له يرون عكس ذلك. أما باقي الشعب المصري فلم تعد تنطلي عليه أكاذيب الإعلام. إنه يرى الفشل بعينه ويلمسه في كل مكان.
على الخليجيين أن يعترفوا أنَّهم أخطؤوا في دعم الانقلاب العسكري. فمصر قوية وراسخة تحت حكم كائن من كان هي في صالح العرب، ولو كان على سدة الحكم فيها إخواني أو شيوعي أو يساري، المهم أن تكون قوية ومتماسكة.
ثبت شرعًا وعقلًا أن فوبيا الإخوان المسلمين التي أصيب بها (البعض) لم يكن لها ما يبررها؛ فالإخوان يحكمون في تركيا والمغرب، وشاركوا في حكومات الكويت والبحرين والأردن، ولم يثبت أن لديهم عداءً تاريخيًا مع دول الخليج سوى في مخيلة المهووسين وصبيانهم من الليبروجامية.
من يكذب الكذبة فيُصدِّقها، فهو وشأنه. وأما السعودية فعليها أن تفكر كالكبار في مشروعها الطموح لترتيب أوضاع البيت العربي في هذه الظروف الاستثنائية.
لن أرد على هراء “الأخونة”؛ فكل عاقل كان يدرك أن مؤسسات الدولة العميقة لم تكن لتسمح للإخوان بالسيطرة على الدولة. فالجيش المصري وقيادته العسكرية كانت خارج سيطرة الإخوان، ومثلها القضاء، ومثلهما الإعلام. لو استمر مرسي في الحكم لسارت البلد وفق توازنات القوى الداخلية هذه إلى بر الأمان، إلى منطقة وسط ليس فيها غالب أو مغلوب.
لكن الجيش ومن ورائه الدولة العميقة وبعض دول الخليج كانوا يرفضون الحكم الديمقراطي، كيف وقد جاء لهم بإخواني؛ ولذلك دعموا انقلاب السيسي الدموي، والإطاحة بالرئيس الشرعي محمد مرسي.
والآن، ما الذي استفادته دول الخليج من دعمها للانقلاب؟
مصر تمزقت، وأموال الخليج اللي زي الرز ذهبت للعسكر والفاسدين ولم تنجح في إعادة إحياء الاقتصاد المصري، وهاهي تسريبات السيسي التي يشتم ويتهكم فيها على حكومات الخليج تنتشر. والجيش المصري فقد بوصلته العسكرية وبات يتواجد في كل مكان إلا حيث يُفترض به أن يكون، على الحدود مع إسرائيل. وهاهي داعش تظهر في سيناء، وتحقق نجاحات ضد الجيش المصري؛ فتمرغ سمعته في التراب…
أي فائدة للعرب تمثلها هذه الـ مصر؟
السيسي فاشل بامتياز. لا ذكاء، لا كاريزما، لا حكمة، لا شجاعة، لا رؤية من أي نوع. جل ما يحسنه هو الاستجداء وطلب الرز، والبلطجة ضد المعارضين والناشطين.
بعد مجيء الملك سلمان إلى سدَّة الحكم، تغيرت أشياء كثيرة. فلقد جاء الملك سلمان برؤية واضحة وسلم أولويات مختلف تمامًا عن سلفه، وعن سلم أولئك المهووسين بالإخوان المسلمين. أولوية الملك سلمان هي في مقاومة التمدد الإيراني ووكلائه الذين باتوا يحاصرون الخليج من الشمال والجنوب والذين يبدو أنَّهم لا يقلقون المهووسين بالإخوان كثيرًا!
بدأ الملك سلمان بقطع اليد الإيرانية في اليمن من خلال عاصفة الحزم. ثم أوقف حالة العداء الشديد مع الجارة قطر. ثم بدأ بالتنسيق مع قطر وتركيا في الشأن السوري؛ الأمر الذي ساعد الثوار السوريين على تحقيق مكاسب كبيرة في غضون شهور قليلة بشكل أوجع الإيرانيين وآلمهم. كما أن الملك سلمان أدرك أن الإخوان المسلمين تيار قوي وفاعل في الشارع العربي، وخصوصًا في القضية الفلسطينية التي يبدو أن السعودية تعمل فيها بقوة لسحب ورقة المقاومة الإسلامية (حماس) من يد الإيرانيين فتخرجهم من لعبة المزايدة والبروباغندا الموجهة للعرب، والابتزاز والضغط السياسي الموجه للغرب.
وفي ظني أن إدارة الملك سلمان الحازمة والجريئة لملفات الصراع في المنطقة كانت سببًا رئيسًا في دفع إيران للتوقيع على الاتفاق النووي لكسب الغرب وأمريكا لصالحها في حربها ضد السعودية للسيطرة على العراق وسوريا ولبنان. لقد دفعت القوة السعودية الصاعدة إيران لتغيير أولويتها من الحصول على السلاح النووي إلى السيطرة على العراق وسوريا ولبنان بعد شعورها بفقدان ورقة اليمن وورقة حماس.
أين تقع مصر وسط كل هذا؟
تقع مصر حيث لا مكان. فأقصى ما يستطيعه الجيش المصري اليوم هو إغلاق معبر رفح، والاستمرار في حصار الفلسطينيين. لا يوجد لمصر أي نفوذ سياسي أو عسكري. مجرد دولة تستجدي الرز.
من عساه يراهن على هذه الـ مصر؟
السعودية لا تريد بلطجيًا، ولا شحاذًا، ولا نصَّابًا مبتزًا؛ بل شريكًا حقيقيًا، يدرك ضرورات المرحلة وتعقيداتها، يجمع شعبه من حوله، ويرى في السعودية قلب الإسلام النابض والقائدة للمرحلة.
وهذا لا ينطبق على نظام السيسي اليوم بكل تأكيد.
إذًا ما الحل؟
لم يخترع بعد ما يمكنه أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، لكن يمكن رصف الطريق بشكل منهجي على النحو التالي:
أولًا: على السعودية أن تقنع دول الخليج، وخصوصًا المصابين منهم بهوس الإخوان، بضرورة رحيل نظام السيسي؛ فالشعب المصري عاجلًا أو آجلًا سيثور على السيسي ولن يتوقف حتى يطيح بالمجلس العسكري، وحينها ستظهر داعش التي لا تلعب سوى حين لا تكون هناك دولة.
ثانيًا: في حال قبول دول الخليج بفكرة رحيل السيسي؛ فإن على السعودية أن تقود حوارًا جادًا مع المجلس العسكري يضمن تخلي المجلس عن السيسي، مع توفير خروجٍ آمنٍ له من مصر، وتعهد بعدم الملاحقة القضائية دوليًا.
ثالثًا: إعادة الرئيس مرسي بشكل مؤقت، ثم إعلانه عن انتخابات رئاسية مبكرة تتم بمراقبة دولية. فمصر لن تقبل باستبدال حاكم عسكري مكان حاكم عسكري.
رابعًا: كل هذا ينبغي أن يتم التفاوض حوله بالعصا والجزرة مع المجلس العسكري.
كيف يتم بالعصا والجزرة؟
في حال رفض المجلس العسكري فكرة إزاحة السيسي، فستتوقف دول الخليج عن دعم النظام العسكري ماديًا واستثماراتيًا. ثم ستدعم بشكل غير مباشر المجلس الثوري في الخارج بخصوص طلبه وضع اسم السيسي وقيادات المجلس العسكري على قائمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وهي جرائم موثقة ومصورة ومثبتة أدت إلى مقتل المئات في ميداني رابعة والنهضة.
كما أن السعودية تستطيع العمل من خلال جامعة الدول العربية، وأعتقد أنها ستجد الكثير من الدول التي ترفض انقلاب السيسي وتعتبره نظامًا غير شرعي.
كما أن السعودية تستطيع الضغط من خلال تركيا، بل ومن خلال الأمريكان الذين يعتبر بعضهم أن انقلاب السيسي على الديمقراطية سيدعم ظهور داعش وتمددها من خلال انضمام الكثير من الشباب الذي سيفقد ثقته بالسلمية والديمقراطية؛ وبالتالي تهديد الأمن الإسرائيلي. ومن يدري، فلعل إسقاط السيسي يصبح ورقة في يد الأمريكان لمصالحة دول الخليج الغاضبة من الاتفاق النووي مع إيران.
لنذهب للسيناريو الأسوأ وهو رفض بعض دول الخليج، وخصوصًا المهووسين بالإخوان، ابتداءً لفكرة تنحية السيسي. هنا، على السعودية أن تستخدم نفوذها بالطريقة التي استخدمتها في السابق لفرض إرادتها على قطر، أو على الأقل تحييدهم عن دعم نظام السيسي؛ مما يجعل نظام السيسي وحيدًا في مواجهة العالم، حيث سيأكل نفسه حين لا يجد رزًا يأكله.
المهم الآن، ألا تنتظر السعودية طويلًا. فكل يوم يمر يُقرِّب مصر من الكارثة. وإن حصلت الكارثة فلن تخرج مصر من لعبة التوازنات السياسية؛ بل ستخرج من كونها بلدًا يملك الحد الأدنى من مقومات الدولة.
أتمنى ألا نتأخر كما تأخرنا في سوريا واليمن…
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق